منذ عدة سنوات قرأت عبارة عميقة توقفت عندها طويلًا ودفعتني لإعادة حساباتي تجاه الألم والمعاناة، وكانت في سناب الأستاذ بدر الحمود في عام ٢٠١٩م وهي: “الألم حتمي أما المعاناة فهي اختيارية“. هنا لأول مرة اكتشف أن هناك فرقًا بينهما، كنت أظن أن المعاناة هي الألم، وأن الألم هو شئ مخيف ينبغي الهرب منه بكل السبل الممكنة وإن داهمنا يومًا فيجب علينا اللجوء لكل ما يمكن أن يصرفه عنا بأسرع وقت ممكن.

هذه العبارة فندت لي حقيقة كنت المسها ولكن ليس بهذا الوضوح، فهناك نوازل تمر على أشخاص مختلفين ولكن لكل منهم ردة فعله المختلفة، وتتراوح بين الصبر والجزع؛ الذي كان يلوح لي من بعيد أن هذا يتألم أكثر من الآخر، ولكن الحقيقة أن كليهما يعيشان نفس الألم ولكن الفرق في درجة المعاناة.

من هذه المقولة تولدت لدي قناعات وتأملات ذكرت بعضها في مقالات سابقة في هذه المدونة، وأصبحت نظرتي مختلفة تجاه الألم وانتقلت إلى محاربة المعاناة بدلا من محاربة الألم، ومؤخرًا وجدت كتابًا يناقش هذه الفكرة بتوسع أكبر وتعمق مستشهدًا بحالات طبية وتجارب انسانية كتبه طبيب جذام سابق وهو كتاب “هبة الألم، صدر ترجمته عن دار تكوين للدراسات والنشر ٢٠٢٠م”.

بعد قراءتي للكتاب تكونت لدي صورة كاملة تجاه الموضوع وقررت تخصيص مقالة منفردة تضم أبرز الأفكار التي خرجت بها من هذا الكتاب ومن تأملاتي لفكرة الألم والمعاناة خلال السنوات الماضية، حتى أنني أصبحت أكثر اهتماما لردات فعل الأشخاص المصابين بأمراض مزمنة وأشخاص لديهم بعض الظروف الاجتماعية القاسية وتأملت في أسلوب حياتهم وطريقة تعبيرهم وكيف واجهوا هذه الظروف.

حقيقة الألم

للألم كما تعلمت منه، قوة خفية للهيمنة على كل شئ في الحياة. حيث تكون له الأولوية على الأساسيات كالنوم والأكل وفترة اللعب مساءًا.

عرفت أول ما عرفت غياب الشعور بالألم خلال العمل مع مرضى الجذام، المرض الذي يصيب أكثر من ١٢ مليون إنسان حول العالم.

أعترف ابتداءً أن سنوات عملي مع المحرومين من الألم منحتني توجهًا متحيزًا. أعتبر الآن الألم أحد أكثر السمات المميزة للجسد البشري.

انعدام الألم كان هو العدو الوحيد. يُصمت الجُذام الألم كليًا، والأضرار الأخرى ما هي إلا الأثر الجانبي لانعدام الألم.

مشكلات المجذومين تكمن في افتقارهم للألم، وعملنا هو تعليمهم كيفية العيش دونه.

– من كتاب “هبة الألم”

عندما نتأمل في حقيقة الألم بوصفها جهاز إنذار يدق ناموس الخطر تجاه خلل ما في الجسم، تماما كما يفعل جرس إنذار الحريق ومؤشر الحرارة في السيارة وغيرها من نماذج التنبيه التي تنذرنا بوجود مشكلة قائمة يجب المسارعة في معالجتها قبل أن تتفاقم، هل من عاقل تجده يقوم بكسر جهاز الانذار بوصفه هو سبب الكوارث والحرائق ويقوم بتجاهل انذاراته؟ الحقيقة أن الجميع يفزع عند سماع صوت الانذار ويعرف أن هناك أمرًا يجب التحقق منه ومعالجته حتى يزول الخطر، تمامًا الأمر مع الألم، هو مجرد تنبيه من الجسم بأن هناك خللا يستدعي التوقف والتأكد من أسبابه ومعالجتها، وعندما نقوم بتجاهل الألم سواء بأدوية المسكنات وغيرها دون معالجة الأسباب فنحن نزيد من حجم الخسائر اللاحقة.

إذا ما خيرت بين الألم واللاشيء، سأختار الألم

– ويليام فوكنر

تطرق المؤلف للاعلانات التجارية للمسكنات التي تصف الألم بأنه عدو يجب اسكاته والتخلص منه للعودة سريعًا للعمل حتى لا تقل الانتاجية وتتعطل الأعمال، وأنه في الغالب يكون الألم بسبب الاجهاد وعدم الاستماع لصوت الجسد الذي يقول عن طريق الألم انه يريد الراحة، وأن الأسلوب الحالي سواء كان السهر وقلة النوم أو كثرة الضغط والتوتر أو الغضب أو سوء التغذية وقلة الحركة كلها عوامل تؤدي لمشاكل أكبر. وأكد فكرة مهمة وهي أننا بحاجة للاستماع للألم وليس لمحاربته واسكاته.

بين الألم والمعاناة

دُهشت بجلد المرضى الهنود وموقفهم الهادئ حيال المعاناة. كان الألم بالنسبة لهم جزءًا من مشهد الحياة، ولا جدوى من تفاديه. كانوا يأتون للمستشفى إذا ما احتاجوا فقط لتدخل طبي عاجل.

الغربيون على العكس، يميلون لرؤية المعاناة على أنها ظلم أو إخفاق، انتهاك لحقهم المكفول في السعادة.

أعلم أنه ما يَقرُب من واحدٍ وعشرين ألف مستشعر للحرارة، والضغط، والألم يتجمعون معًا في كل إنش مربع من كل أنملة.

الألم ليس هو العدو، إنما هو رائد مخلص يُبلغ عن العدو.

بإمكاننا أن نصبح مهرة في تحويل الألم إلى حالة أكثر خطورة نسميها المعاناة. أو العكس من ذلك، بإمكاننا تعلم التحكم بالموارد الهائلة للعقل الواعي ليساعدنا في التعامل مع الألم.

إذا ما تضخم القلق المتعلق بالإصابة وتحول الى الخوف فإن الألم سيتضاعف إلى الحد الذي معه يُصبح مؤلمًا حقا لذلك الإنسان

الانتقام والمرارة هما الاستجابتان العاطفيتان اللتان يبدو أنهما الأكثر تسببًا للضغط عالي المستوى في الكائن البشري.

وأن الامتنان هو الاستجابة الوحيدة التي تزيد الصحة أكثر من غيرها.

لاحظت أن الذي يرى الألم عدوًا، يستجيب برغبة انتقامية أو شعور بالمرارة – لم أنا؟ لا أستحق ذلك! إنه ليس عدلًا!- وهذا له تأثير ارتدادي خبيث على تردّي ألمهم.

السبب الذي يجعل بعض أنواع السرطان أخطر من غيرها هو أنها تؤثر على أجزاء الجسم الأقل حساسية للألم.

بغض النظر عن استعدادنا للألم، فإنه دائمًا ما يأتي مفاجئًا.

– من كتاب “هبة الألم”

دائرة المعاناة هي التي تضيع فيها حياة الكثيرين وليس الألم، المعاناة يندرج تحتها تضخم الشعور بالألم، والهلع من رؤية الدم، الخوف من الأمراض، كثرة التبرم والتشكي والتذمر، كلها من صور المعاناة. يلبس الشخص الذي يعاني ثوب الضحية ويبكي على حاله ويبتئس ويتصف بالعجز والاستسلام.

من المهم جدًا الوعي تجاه الألم وتجاه كل أقدار الحياة المؤلمة، وهي من صميم الإيمان، وأن المؤمن مأجور، كل هذه المعاني تخفف من وطأة المعاناة وبالتالي يخف وقع الألم ويتحول إلى أمل. طريقة التفكير والاعتقادات الراسخة عن الألم هي من تحدد مستوى المعاناة وهي من تقود المشاعر، وبالتأكيد للحالة النفسية والمعنوية دور كبير في زيادة المناعة وجودة الحياة.

تقبل فكرة أن الحياة متغيرة ومتبدلة يخفف كثيرا من وقع المعاناة، وأنها تتقلب بين فرح وكدر، وأن المرونة والتغافل هما السبيل للحياة المطمئنة، وليس هناك خسارة كاملة أو ربح كامل بل هناك شئ يعوض شئ، والتركيز دائمًا على النقائص هو أكبر أبواب المعاناة، وكذلك من مسببات المعاناة الشعور بالذنب والانعزال والوحدة وافتقاد المحيط الاجتماعي الداعم واليأس والشعور بالعجز. أثناء الشعور بالألم لا تحاول المقاومة أو التذمر (لماذا أنا؟ ولماذا أمرض دائمًا؟) وغيرها من قبيل الأفكار التي توهن العزيمة وتعزز المعاناة، أنت في هذه اللحظة بحاجة لكل فكرة تشد من أزرك وتقوي عزيمتك. والملاحظ انه في وقت الألم يغيب التفكير الموضوعي وتطغى النظرة العاطفية التي تعزف عميقًا على وتر الحزن والمعاناة.

اقتباسات من الكتاب

اللذة .. بوابة للسعادة أم المعاناة ؟

تعلمت من المحرومين من الألم أني لا يمكنني الاستمتاع بالحياة بسهولة دون الوقاية التي يوفرها لي الألم. كما أن هناك عاملًا آخر أيضًا، إذ صرت واعيا أكثر وبطريقة مطّردة بالتشابك الخفي بين الألم واللذة.

الترف جعل الغرب الصناعي الحديث مكانًا صعبًا لتجربة اللذة.

السعادة تسحب بساطها ممن يسعى لها. وبطريقة مواربة، تظهر في اللحظات غير المتوقعة، تظهر منتجًا جانبيا وليس رئيسيا.

كلما تركنا للعوامل الخارجية تحديد مستوى قناعتنا – كالسيارة الجديدة والملابس العصرية، والوظيفة ذات الوجاهة، والوضع الاجتماعي – تنازلنا أكثر عن التحكم بسعادتنا الخاصة.

المجتمع الذي يلهث خلف المتعة يجازف برفع سقف التوقعات باطّراد، ومن ثم تُصبح القناعة ضربًا من ضروب التعذيب بالترغيب.

اعلم أن تعاظم المتعة مرتبط بتعاظم المعاناة التي سبقتها.

– من كتاب “هبة الألم”

يرتبط سعينا في الحياة بالبحث عن اللذة والمتعة باعتبارها المورد الأول للسعادة، ولكن لا يخطر على بالنا أنها نتيجة جانبية وليست أساسية، لا تطلب لذاتها وانما تكون نتيجة للقناعة والرضا، للإخلاص والعطاء، للإيمان والعبادة، في أوجه كثيرة بعضها يشترك فيها جميع البشر لكونها إنسانية وبعضها الآخر مختلف.

إدراك المعاني خلف ما نفعله ونشعر به يهدينا اللذة والسعادة ويخفف عنا وطأة الألم، وجود رسالة نبيلة وغاية سامية يقينا من خيبة العثرات والانكسارات، وجود عائلة صغيرة وقلوب متآلفة نسعى لاسعادها يمدنا بطاقة من الأمل والتفاؤل تبدد كل ضيق وكدر، يجب علينا التركيز في القيمة والمعنى والأثر بدلا من اللهث خلف اللذة والمتعة ومقاومة الألم، لأن الأولى توصلنا للثانية، أما الثانية فلن توصلنا أبدًا للأولى لانها دوامة قاتلة تبتلعنا ونضيع فيها.

في التعب يكون الظفر وما بعد العناء إلا العطاء، لا تبحث عن المعارك السهلة لانها لن توصلك إلى منصات التتويج والبطولات، ولا توجد معاناة مستمرة لان كل شي سيمضي وينتهي، “ولمن صبر وظفر فإن ذلك من عزم الأمور

قد يعجبك أيضاً:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *