هل للاقتصاديين أهواء وتحيزات ؟ نعم، بل يندر ألا يكون لهم هوى يؤثر فيما يدعون إليه من سياسات اقتصادية، بل وحتى فيما يقدمونه من نظريات. نعم من الممكن أن تجتمع التحيزات والعلم، بل من النادر ألا يجتمعا.
– أستاذ الاقتصاد المصري د. جلال أمين
سبر أغوار عالم صناعة الأفكار والقرارات ضرورة أساسية لفهم قراراتنا ودوافعنا الشخصية، وفهم دوافع وقرارات الآخرين، لأنه يكادر يندر أن يوجد قرار أو فكرة أو رأي بدون دافع أو محرك أو مؤثر يدفع المرء باتجاه هذا القرار، فالفهم من المهم أن يأتي أولًا قبل اتخاذ الاجراء، لأن استيعاب القاعدة التي بنيت عليها هذه الأفكار والقناعات عنصر مهم في تحديد الاجراء المناسب. لذلك السؤال الذي يحاول هذا المقال الإجابة عليه هو (ما هي الأشياء أو الدوافع أو التحيزات التي تؤثر على قناعاتنا وأفكارنا ؟)
قبعات الأفكار
الأفكار أو المؤثرات الفكرية هي كالقبعة، يمكن ارتداؤها وخلعها حسب الموقف والمزاج والسن وغيرها من العوامل، فلا يوجد إنسان يبقى طوال حياته متعلقًا بقناعة واحدة، وهذا ما يفسر ندمنا على بعض القرارات التي اتخذناها في الماضي، وخجلنا من بعضها الآخر، وعندما نتخذ القرارات في حال الفرح والسرور تأخذ منحى وشكل مختلف عن قراراتنا ونحن في حال الحزن أو الغضب، وكذلك النصيحة الشهيرة لا تذهب للسوق أو المطعم وأنت جائع لأن الجوع سوف يؤثر على قرارك وقد يدفعك لشراء كميات أكبر من الذي تحتاجه وتستهلكه. وكذلك القرارات البسيطة مثل ماهو غداء اليوم ؟ أو ماذا سألبس ؟ وحتى القرارات الكبيرة مثل اختيار التخصص، الزواج، مكان العيش، الوظيفة…الخ.
ذكر د. عبدالرحمن الريس في كتابه (محركات الأفكار) اثنا عشر محركًا للأفكار وتعتبر أساسًا للعديد من القناعات والأفكار التي تصدر من ذواتنا أو من الآخرين، وهي كالتالي (الهوى – الكبر والحسد – العواطف والمشاعر – الفتور والكسل – الوازع الإيماني – التصور المادي – الجهل المعرفي – تحرر العقل والاعتداد به – التباين والتفاوت المنهجي – الغموض في الأفكار وأساليب طرحها – سنة الابتلاء – سنة التغيير والمداولة – سنة التدافع – الظرف الاجتماعي – سلطة الأقران – العصبية للقبيلة والأشياخ – الفقر – الاسترزاق المعيشي – الطمع والجشع المالي – الغلبة الحضارية – الظلم والجور – التغيرات السياسية).
فالإنسان ليس فقط كائنًا مفكرًا ولكنه حزمة من أجهزة التفكير والإحساس والتذكر والتخيل وتوليد المطامح والآمال..الخ وليست هناك فواصل حديدية داخل الإنسان تمنع من تفاعل هذه النوازع الإنسانية المختلفة بعضها ببعض.
– د. جلال أمين، فلسفة علم الاقتصاد ص19.
التحكم بالمؤثرات والدوافع بدلا من مقاومتها
يعتمد مستوى التحكم بالمؤثرات والدوافع بمستوى المرونة والمعرفة والإدراك والوعي لدى الشخص وأيضًا يختلف على حسب المرحلة الزمنية والحالة المزاجية والعمر، فبعض العوامل يكون تأثيرها على النفس قويا وجارفًا لا قِبل للمرء به وبعضها الآخر يكون أقل حدة، ولكن من المهم إدراك أنه لا توجد نسبة تحكم أو مقاومة 100%، ويجب التحول من مقاومة التحيزات أو المؤثرات إلى تكييفها واستثمارها في الجوانب الإيجابية. فالتحيزات ليست سلبية دائمًا فهناك جوانب منها مفيدة ولكن يعتمد على حسب الاستخدام والتكييف (مثلًا: حب المال والتملك مباح في التعاملات التجارية المشروعة ومحرم في الربا والغش والاحتيال، وكذلك الشهوة مباحة في الزواج الشرعي ومحرمة في خلاف ذلك؛ فهذه كلها محركات ودوافع اختلفت كليًا باختلاف طريقة استعمالها). ولو تأملنا في ظروف ومراحل نزول الأحكام الشرعية على النبي عليه الصلاة والسلام لوجدنا مراعاة لبعض الظروف والمراحل -كمرحلة البعثة والدعوة السرية والجهرية والهجرة وما بعد فتح مكة- ومن أشهرها التدرج في تحريم الخمر وذلك مراعاة للمؤثرات والمحفزات الموجودة لدى المسلمين حينها.
وهنا اقتبس عبارة جميلة للدكتور جلال أمين -نفس المصدر السابق- يقول فيها “التحيز كثيرًا ما يكون مفيدًا ومطلوبًا، فيظهر في عدة أمور منها ما تكتسب به الحياة من معنى، وما يضفيه على كثير من أوجه النشاط الإنساني من بهجة. تصوّر حالك وأنت تتابع مباراة في كرة القدم بين فريقين دون أن يكون لديك أي تحيز لفريق دون آخر. إن فقدانك لأي تحيز في هذه الحالة قد يفقد المباراة، في نظرك، أي معنى”.
العقل المفتوح على الدوام هو عقل فارغ على الدوام.
– الفيلسوف البريطاني برتراند رسل (تعبيرًا عن الشخص الذي لديه استعداد دائم لقبول أي فكرة وأي رأي).
الإدارة الحكيمة للمؤثرات والدوافع = قرارات أفضل
كما سبق وأشرنا إلى أن الدوافع والمؤثرات والتحيزات عنصر مهم ومكوّن أساسي في قراراتنا الشخصية في الحياة وأن الإدارة الحكيمة لهذه المشاعر والدوافع والمؤثرات يساعدنا على اتخاذ قرارات فعّالة ومثمرة وأيضًا فهم قرارات ودوافع الآخرين، لذلك نحتاج لفهمها وتفسيرها، وسنلاحظ مع مرور الوقت ستتغير نظرتنا ومشاعرنا وردات فعلنا تجاه كثير من أمور الحياة. فحكم المباراة والقاضي والطبيب والرئيس ورب الأسرة والأستاذ والباحث…الخ كل منهم لديه تحيزاته ودوافعة الخاصة فهو في النهاية إنسان وبشر، فليس باستطاعته التجرد من هذه التحيزات بل المطلوب منه تحييدها بحيث لا تؤثر على قراراته الخاصة بعمله. والملفت كذلك أن اللغة تعتبر نوعًا من أنواع التحيزات فبعض اللغات فيها مصطلحات وعبارات تعزز من تحيز الشخص، وهناك العديد من الدراسات التي أجريت على بعض الأشخاص الذين يتحدثون أكثر من لغة، أن قراراتهم تختلف باختلاف اللغة التي يفكرون ويتخاطبون بها.
تكلّم حتى أراك
– جملة نسبت إلى الفيلسوف اليوناني سقراط تعبيرًا على أن الكلام يظهر دوافع وتحيزات الشخص.

عدم إدراك التحيزات والدوافع قد يعرضنا لكثير من الهفوات والكبوات وذلك نتيجة لسوء تقدير المواقف واتخاذ قرارات في غير موضعها، وخسارة علاقات بسبب فهم خاطئ للطرف المقابل، وقد ندخل في صراعات لا ناقة لنا فيها ولا جمل، أو نُستغل في خدمة أهداف الآخرين على حساب أنفسنا وحياتنا، أو نُستغل أيضًا بالوقوع في فخ العروض الترويجية للشركات التي أصبحت تجيد اللعب على وتر العواطف والمؤثرات في الترويج والتسويق لمنتجاتها. كل ذلك أساسه عدم الوعي بالمؤثرات والدوافع والتحيزات. ونؤكد مجددًا أنه ليس هناك سبيل للتجرد منها أو مقاومتها 100% ولكن المهم الوعي بوجودها ومحاولة التحكم بها وتكييفها ايجابيًا قدر المستطاع.