لا تقلْ أصلي وفَصلي أبداً
إنما أصلُ الفَتى ما قـد حَصَلْ
قيمـةُ الإنسانِ مـا يُحسنُهُ
أكثـرَ الإنسـانُ منـهُ أمْ أقَلْ

– ابن الوردي

في أحد المقابلات التلفزيونية تم إجراء مقابلة مع رجل هندي مسن، ذكر بعض المفارقات التي تحصل في بعض الشوارع الهندية، في محلات أو (أكشاك) بيع الشاي المنتشرة لديهم والتي يسمونها متاجر الشاي (تيشوب Teashop)، والمفارقة كانت أن الشخص الذي يبيع الشاي كان يفتي في كل أمر، ويعطي النصائح في أي مجال، وقد يعلّم رئيس الوزراء كيف يدير الحكومة، والطبيب كيف يعالج مرضاه والمعلم كيف يعلم تلاميذه، وهكذا يصول ويجول في كل ميدان، ما عدا شئ واحد لا يعرف كيف يتقنه، ألا وهو ابريق الشاي الذين بين يديه.

المضحك المبكي في هذه المفارقة أن هذا الأسلوب يتكرر معنا في مواقف كثيرة من الحياة، تجدنا نقضي جلَّ مجالسنا وقراءاتنا وحتى تفكيرنا في أمور هامشية بالنسبة لنا أو تكون نسبة تأثيرنا فيها لا تتجاوز 10% وفي المقابل نترك الأمور التي ضمن نطاق مسؤوليتنا والمطلوب منا الإلتفات إليها والاهتمام بها وفي الحقيقة هي التي تشكّل قيمتنا في الحياة.

جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ يا رسولَ اللهِ متى قيامُ السَّاعةِ فقامَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إلى الصَّلاةِ فلمَّا قضى صلاتَهُ قالَ أينَ السَّائلُ عن قيامِ السَّاعةِ فقالَ الرَّجلُ أَنا يا رسولَ اللَّهِ قالَ ما أعددتَ لَها قالَ يا رسولَ اللهِ ما أعددتُ لَها كبيرَ صلاةٍ ولا صومٍ إلَّا أنِّي أحبُّ اللَّهَ ورسولَهُ. فقالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ المرءُ معَ مَن أحبَّ ، وأنتَ معَ مَن أحببتَ فما رأيتُ فرِحَ المسلمونَ بعدَ الإسلامِ فرحَهُم بِهَذا.

– حديث صحيح، سنن الترمذي 

وجه بوصلة تفكيرك للمسار الصحيح .. نحو نقاط تأثيرك

نستفيد من الحديث النبوي الشريف كيفية توجيه بوصلة التفكير والتركيز في الحياة (متى الساعة ؟ “اهتمام” .. ماذا أعددت لها ؟ “تأثير”)، التحوّل من نقاط الاهتمام إلى نقاط التأثير (أي حوِّل الكرة لملعبك، حسب اللهجة الدارجة)، والتحوّل من دور المتلقي المنتظر إلى دور المبادر المثابر، صحيح أن الحياة لا تأتي كما نريد دائمًا، ولكن في غالب أحوالها اختياراتنا وسلوكنا فيها هو من يحدد النتائج -بعد توفيق الله وتيسيره-، لذلك تعلمنا منذ طفولتنا الحكم المشهورة “من جدَّ وجد، ومن زرع حصد” و”لكل مجتهد نصيب”، فالمبادر لا يعيش دور الضحية وإنما دور البطل، يتحرك في نطاق قدرته وتأثيره ويغيّر من واقعه، فالنجاح هو في الحقيقة صناعة خالصة وليس للصدفة فيها أي دور، أما عن الحظ، فالحظ يعتبر جزء مساهم في النجاح وله فلسفة مختلفة عن ما تعودنا عليه.

نخلط كثيراً بين الصبر و الانتظار، فالصبر لا يعني الجلوس ساكنين، بل يجب أن يواكب العمل الحثيث لتحقيق الأهداف المنشودة.

– ابن تيمية

فلسفة الحظ غير التقليدية .. حظ = فرصة

فلسفة الحظ -غير التقليدية- تقول أن الحظ عبارة عن (فرص) تحتاج بيئة وممكنات لتنمو وتستقر ويستفيد منها الإنسان، فالفرصة أو الحظ بالتعبير الشائع ليس له قيمة في حد ذاته ما لم تكن الظروف المحيطة مهيأة، ويعتمد ذلك على الشخص نفسه، هذه الفلسفة تختلف عن ما تعودنا عليه بأن الحظ يأتي كفرصة مكتملة لأي شخص وفي أي وقت وأن هذا الحظ لو جاء لأي شخص آخر لحصل على نفس المميزات والمكاسب، والواقع يخبرنا عكس ذلك، فالعروض الوظيفية والمنح الدراسية وغيرها من فرص الحياة لها متطلبات أساسية من الصعب أن ينالها شخص وهو يفتقر لتلك المتطلبات، وحتى إن حصل عليها بطريقة أو بأخرى فلن يضيف لها أو تضيف له شيئًا، وصارت عبئًا على صاحبها.

يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ … وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ

– المتنبي

البصيرة (المعرفة) + القدرة (المهارة) = الحكمة (الخبرة)

ليس (قلة الحظ) هي ما ينقصنا في الحياة، فالفرص تلوح في سماءنا بشكل متكرر ومستمر، وإنما ينقصنا البصيرة (المعرفة) لنراها، والقدرة (المهارة) لنحصل عليها، والحكمة (الخبرة) لنستفيد منها ونستطيع الحكم عليها بأنها مناسبة أو غير مناسبة. من خلال الكلمات التي بين الأقواس نستطيع زيادة الحظ أو (الفرص) في حياتنا.

فمن خلال تطوير المعرفة والإطلاع والقراءة والتعلم في التخصص أو المجال العلمي الخاص بك، والأمور التي هي من صلب تأثيرك (وليس اهتمامك) حتى ترى الفرصة (من يجهل أمرًا لن يرى فيه أي فرصة، ببساطه لأنه لا يعرفه)، وأيضًا بالممارسة وتطبيق المعرفة تكون هي القاعدة (المهارات) التي نرتكز عليها وتمنحنا القدرة على استثمار الفرص، وأخيرًا من تراكم المعرفة وممارسة المهارة نخرج بما يسمى بالخبرة، التي نستطيع من خلالها اتخاذ القرارات بحكمة تجاه الفرص وتحديد جدواها لنا، إما بالقبول أو الرفض، فليس كل فرصة تكون مناسبة لك. وهذه السلسلة أو الدائرة لا تتم بين عشية وضحاها وإنما بمعاركة التحديات والأيام والصبر على التعلّم والعمل والمحاولة والتكرار والسقوط والنهوض.

وَفي الناسِ مَن يَرضى بِمَيسورِ عَيشِهِ … وَمَركوبُهُ رِجلاهُ وَالثَوبُ جِلدُهُ

وَلَكِنَّ قَلباً بَينَ جَنبَيَّ مالَهُ … مَدىً يَنتَهي بي في مُرادٍ أَحُدُّهُ

– المتنبي

أليس في الحياة نقاط اهتمام ؟

من المؤكد أن الحياة لا بد فيها من نقاط اهتمام وليست دائمًا تتركز حول نقاط التأثير ولكن، لا بد أن نعطيها وزنها الصحيح من التركيز والاهتمام والاطلاع والمشاعر (والأخيرة مهمة جدًا، لانه ليس هناك اسوأ من أن يؤثر على مشاعرك أمر ليس لك تأثير فيه وإنما مجرد اهتمام)، بحيث لا يختل توازن الحياة، ثم تعيش حينها دور الضحية، والسبب أنك سلمت مشاعرك وحياتك رهينة لأمور ليس لك فيها تحكم وتأثير.

وَأَنّي إِذا باشَرتُ أَمراً أُريدُهُ … تَدانَت أَقاصيهِ وَهانَ أَشَدُّهُ

– المتنبي

نقاط تأثيرك .. تشكّل قيمتك وعلامتك التجارية الشخصية .. وتزيد من فرص نجاحك في الحياة

بعد هذا الاستعراض لفكرة نقاط التأثير وتغيير مفهوم الحظ المتعارف بها لدينا، وأن الإنسان لديه نسبة تحكم كبيرة في مجريات حياته من خلال تغيير طريقة تفكيره، هذا يقودنا للنقطة الأخيرة وهي نتيجة كل هذا السعي، وهي الوصول لمرحلة الإتقان واكتساب المَلَكة، والنجاح في هذا الأمر، وهذا سيؤدي لصناعة علامة شخصية فارقة تتميز بها في سوق العمل وفي الحياة عمومًا، وهذا ما يعرف بالقيمة الشخصية (Personal Value). فالقيمة الشخصية للإنسان (وهو يحتاج لمقال مستقل) لا يحددها امتيازات مادية أو عائلية أو عرقية وإنما تأتي بالسعي الحثيث والعزيمة والمثابرة، ولنا في قصص الكفاح لكثير من الشخصيات الناجحة التي كسرت القواعد التقليدية وصنعت لأنفسها قيمة.

قيمة الإنسان هي ما يضيفه إلى الحياة بين ميلاده ووفاته

– د. مصطفى محمود

قد يعجبك أيضاً:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *