في ظلمة الليل وبعينين دامعتين وبجسد رقَّ عظمه وشاب شعره وداهمته الشيخوخة، رفع زكريا -عليه السلام- يديه بصوت خافت ملؤه اليقين والرهبة والإنابة إلى ربه، يسأله أن يرزقه الولد، بالإضافة للعوامل التي سلف ذكرها، كانت امرأته عاقرًا (أي لا تنجب حسب مقاييس الحياة الدنيا والبشر)، ولكن في مقاييس اليقين والإيمان بالله كل شئ ممكن. لم يكن زكريا يطلب الولد فحسب وإنما بمواصفات منها، (فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا)، (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ)، (وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا).
بحجم عِظم هذا اليقين والدعاء والإيمان بقدرة الله عزّ وجل، كان عِظم العطاء من العزيز الوهاب من بيده خزائن كل شئ، جاء العطاء الإلهي العظيم (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا)، سأل زكريا -عليه السلام- (قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) فأجابه ربه (قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا). أيضًا من النعم التي وهبها الله ليحيى عليه السلام -بالإضافة للتسمية- الحكم والنبوة والتقى وحفظه الله من كل طغيان وجبروت (يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) -سورة مريم.
علقوا آمالكم بالعزيز الغفار، ولن تضيع حتى ولو كانت من المستحيل (في موازين أهل الدنيا)، فمن أجاب زكريا عندما ناداه بصوت خفي في ظلمة الليل، وبدعاء لو سمعه أحد من الخلق لعجب منه، كيف يسأل الله الولد وقد وهن العظم منه واشتعل رأسه شيبًا وكانت امرأته عاقرًا .. فأتاه الجواب والعطاء الجزيل من ربه، الذي لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء.
هذه قصة من قصص الإيمان واليقين، التي ذكرها القرآن لنا للعظة وزيادة المخزون الإيماني في وجه مصاعب الحياة، ونتذكر أننا لسنا وحدنا، ونتذكر عظمة الله وقدرته، ونتحول من السعي لإرضاء البشر إلى إرضاء ربّ البشر، ومن رجاء الخلق إلى رجاء الخالق، وأن أرزاقنا وآجالنا وجميع أمرنا بيد الرحمن الرحيم، الحليم الكريم، العزيز الحكيم، وما سواه مجرد أسباب يقدّرها سبحانه، ويمتحن بها إيماننا وصدق توكلنا، ويتبين يقين القلوب من كلام الألسن، فالإيمان ليس كلمات تردد وإنما شعور ينبع من القلب وتصدقه الجوارح.
(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
– سورة يس، آية 82
قصة يونس وهو في ظلمات ثلاث، البحر والليل وبطن الحوت، وكيف يقينه بربه أنجاه من تلك الغمه، ولولا أنه لم يعلق قلبه بربه ويسبحه ويقر بتقصيره (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، وقصة موسى مع جبروت فرعون وكيف عندما حوصر مع بني اسرائيل البحر من أمامهم وفرعون وجنوده من ورائهم (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أجابهم موسى بلسان المؤمن القوي (كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) فكان الفرج الإلهي بعِظم هذا اليقين (فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ). وقصة نوح، ويوسف وأيوب وإبراهيم ونبينا محمد -عليهم الصلاة والسلام- وغيرها من قصص الأنبياء التي ذكرت في عدة سور من القرآن، تذكرنا المرة تلو الأخرى بالملجأ الذي يجب أن نلجأ إليه دائمًا في السراء قبل الضراء، وأن ارتباطنا بالله يجب أن يكون في جميع شؤون حياتنا، نستشعر رحمته، وقربه، وفضله، وعزته، وكرمه، وإحسانه، ثم يتجلى ذلك في كل ما نقوله ونفعله.
في القرآن نبراس ينير حياتنا، ودواء لأسقامنا، وضياء يبهج قلوبنا، خاصة ونحن الآن في شهر القرآن، شهر رمضان، لنستثمره في تدبر آياته ونتلوه بقلوبنا قبل ألسنتنا، ونستقي منه ما يضفي على حياتنا شمعة خير وأمل ويقين وإيمان.
ختامًا، نتعلم من ما سبق، أننا كلفنا أنفسنا فوق ما تطيق، وبحثنا عن حاجتنا في غير المكان الذي هي موجودة فيه، وتعلقنا بحطام الدنيا البالي، وتركنا الكنوز التي ورثناها وأهملناها، فكانت النتيجة تراكم الضغوط النفسية والأحزان والآلام على قلوبنا، وكل ما نحتاجه هو إعادة تصحيح المسار بتوبة صادقة ورجاء لا يخيب إلى التوّاب الودود، من يفرح بإقبال عباده وإنابتهم، وتذكر أن جميع أمورك هي في خير وعلى خير كما قَالَ رَسُولُ الله ﷺ:
(عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ).
– رواه مسلم.
بمثل هذا اليقين واجه أحزانك، مخاوفك، آلامك، مصاعبك، وتحدياتك .. وتذكر دائمًا في كل شؤون حياتك وصية الحبيب ﷺ في هذا الحديث:
(عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: “الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ.”
– رواه مسلم.