يمر بنا في كل نهاية فصل دراسي العديد من الطلبة الذين لم يجتازوا المقررات، بين من يلقي اللوم على الأساتذة وعلى جميع من حوله وكل الناس ملامون إلا هو، وبين من يدخل في دوامة من جلد الذات والاحباط دون أن يتطلع للأسباب الحقيقية التي قادت إلى هذه النتيجة والتي ليست في ذاته وانما مجرد خطأ أو تقصير ارتكبه إما عن غفلة أو جهل. فحري بنا معرفة الحالات الثلاث للتفكير الداخلي حتى لا نقع في فخ الإحباط أو الاستكبار ونتعلم جيدًا من مواقف الحياة.

يمر على الإنسان العديد من المواقف خلال حياته، وتنحصر هذه المواقف بين ثلاث زوايا في داخل النفس، الأولى هي زواية النقد الذاتي الإيجابي البنّاء والثانية هي زاوية النقد الذاتي السلبي، والثالثة هي زاوية الغرور والقاء اللوم على الخارج.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا

– سورة النساء، آية 135

النقد الذاتي الإيجابي

هذا النوع من النقد مفيد للتقييم الموضوعي للأحداث والقرارات اليومية، ويساعد في رسم الصورة المستقبلية بوضوح استنادا لدروس الماضي واخطائه. وهذا النوع من النقد يقدر النفس حق قدرها دون إفراط أو تفريط، ويلتمس لها اجتهادها واخطاءها، ويحلل الأحداث ويستخلص منها الدروس والعِبر، ويتراجع حين يتطلب الموقف التراجع.

أصحاب النقد الذاتي الإيجابي لا يتوقفون طويلًا عند الكلمات والهمسات والأحداث، يتجاوزونها بكل حكمة، هم أشخاص يعرفون أنفسهم جيدًا، ويعرفون ماهو مطلوب وما هو مرغوب وما هو غير ذلك. لذا فأول سبيل لممارسة النقد الذاتي البناء هو من خلال معرفة النفس وإدراك مواطن ضعفها وقوتها، ومعرفة نطاق قدراتها ومسؤولياتها، ثم النظر بكل موضوعية وحيادية تجاه ما يواجهنا من مواقف وأحداث، لاستخلاص الدروس واصلاح ما يمكن اصلاحه، وهذا سينعكس ايجابا على المستقبل.

النقد الذاتي السلبي

النقد الذاتي السلبي هو جلد الذات المبالغ فيه والتركيز على النفس والقاء اللوم عليها والبعد عن المشكلة وأسبابها، وهذا النوع مدمر ويؤدي للانكفاء والعجز حتى عن أبسط الأعمال اليومية خوفًا من الفشل، لأن أي خطأ يرتكب إما لأسباب داخلية أو خارجية يتم نسبته على الفور للذات ويتم وصمها بالفشل وعدم احسان أي شئ، وبالتأكيد للطفولة وظروف النشأة والبيئة المحيطة بصماتها وآثارها التي تغذي هذه الحالة، وكذلك العنف وكثرة اللوم والنقد السلبي يسبب نمو وتعاظم لهذا النوع حتى يصبح هو السائد لدى الشخص.

من سبل التعافي من هذا النوع هو تعزيز الثقة بالنفس، التركيز على الجوانب الايجابية، الحرص على معرفة الأسباب الموضوعية للأحداث، واستيعاب أن كل انسان معرض للخطأ وهذا لا يعني انه فاشل، والفصل بين “الذات” وبين “السلوك” (أنت إنسان جيد ولكن سلوكك هو الخاطئ)، والتحسن يأتي بالتدريج، وفي حالة كانت الحالة شديدة فهنا الأمر يستدعي استشارة مختص نفسي.

الاستكبار والقاء اللوم على الخارج

هذا النوع من التفكير يتسم به كثير من الذين يحاولون الهروب من الاعتراف بالخطأ، ورمي اللوم على الظروف الخارجية، ووصفها د. غازي القصيبي في محاضرته القيمة والتي أنصح باستماعها خصوصا في هذا الموضوع وكانت بعنوان “دروس في الفشل- تجربة الترشح لليونسكو” وصفها بالعبارة الشهيرة “بخششوا الحكم”، أو ” مجرد نكسة”، ومحاولة الهروب عن الأسباب الحقيقية بقوالب وهمية، تجنبا للوم، والنتيجة أن الخطأ مستمر والنكسات متكررة والكبوات أصبحت عادة، وفي كل مرة هناك أعذار جاهزة، ظنا منه أنه قد نجا بنفسه المسكين، حتى يستيقظ بعد فوات الأوان وقد ضاعت الفرص وضاعت الحياة وحينها لا ينفع اللوم ولا الندم، كما حصل مع فرعون.

استمع لصوتك الداخلي، وزنه بميزان المنطق والحكمة، خذ منه ما يفيد، وتجاهل ما يضر ولا ينفع. انظر للأحداث والمواقف والقرارات ببصيرة، تجاوز القشور والمظاهر والأضواء، اهتم بالبواطن والمضامين. اقبل النتائج بلا تكابر ولا تغافل ولا استكبار وبلا ضعف ولا يأس ولا احباط. استخلص الدروس والعبر من كل موقف، وارفع شعار “أنا في الحياة أحاول وأجرب وأتعلم”. اعرف نفسك جيدًا، ثم خذ من كلام الآخرين ما ينفعك وارمي الكلام السلبي الذي يهدم ولا يبني.

والنقد الذاتي مفيد على مستوى الفردي وعلى المستوى المؤسسي في نهاية كل مرحلة لابد من مراجعة النفس ومراجعة الأداء، والسعي للتحسن والتطور، وكذلك المؤمن في الدنيا مطالب بمراجعة ومحاسبة نفسه بالنقد الذاتي الايجابي لتقويم سلوكه وتصحيح مساره قبل يوم لا ينفع فيه مال ولا ولد وليس فيه محاولة أخرى.

قد يعجبك أيضاً:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *